الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَغْيِ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا قُرِنَ بِالْعُدْوَانِ كَانَ الْبَغْيُ ظُلْمَهُمْ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ كَالسَّرِقَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتِ وَالِابْتِدَاءِ بِالْأَذَى وَالْعُدْوَانُ تَعَدِّيَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَائِهِ إِلَى أَكْبَرَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حُدُودِ اللهِ قَالَ فهاهنا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: حَقُّ لِلَّهِ وَلَهُ حَدٌّ، وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ وَلَهُ حَدٌّ، فَالْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ تَجَاوُزُ الْحَدَّيْنِ إِلَى مَا وَرَاءَهُمَا، أَوِ التَّقْصِيرُ عَنْهُمَا فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا اهـ.(5): الشِّرْكُ بِاللهِ- وَهُوَ مَعْرُوفٌ- وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا سُلْطَانٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّ لَهَا سُلْطَةً عَلَى الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [6: 148] الْآيَةَ وَنَصٌّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْإِيمَانِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ مُؤَيَّدٍ بِالْبُرْهَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [23: 117] الْآيَةَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الدَّاعِي إِلَّا كَذَلِكَ. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى عَظَّمَ شَأْنَ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فِي دِينِهِ وَنَاطَ بِهِ تَصْدِيقَ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَرَدَّهَا، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَوْضُوعِهَا، حَتَّى كَأَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى الشِّرْكِ يُصَدَّقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ فَرْضِ الْمُحَالِ، لِلْمُبَالَغَةِ فِي فَضْلِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ قَالَ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ عَلَى تَوْحِيدِهِ: {أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [27: 64] عَلَى أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِمْ بُرْهَانٌ فِيمَا أَقَامَ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ الْبُرْهَانَ، وَكَيْفَ يَكُونُ لَدَيْهِمْ مَا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ، كَقَوْلِهِ: {قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [10: 68] إِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَدْنَى دَلِيلٍ بِهَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ الَّذِي تَقُولُونَهُ مَعَ أَنَّ مَا تُبْطِلُ الْبَرَاهِينُ وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ مِثْلَهُ يَحْتَاجُ مُدَّعِيهِ إِلَى أَقْوَى الْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ وَأَعْظَمِهَا سُلْطَانًا عَلَى الْعُقُولِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا تَقُومُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ مِنَ الْعَقْلِ، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ قَالَ: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ تُنَاسِبُ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا.6: الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ- وَهُوَ أَعْظَمُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنْ أُصُولِ الْمُحَرَّمَاتِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى فِي دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ، فَإِنَّهُ أَصْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَمَنْشَأُ تَحْرِيفِ الْأَدْيَانِ الْمُحَرَّفَةِ، وَشُبْهَةُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ الْحَقِّ، النَّاسِخِ كِتَابُهُ الْمَعْصُومُ لِلْأَدْيَانِ الْمُبَدَّلَةِ، وَالْمُهَيْمِنِ عَلَى الْكُتُبِ الْمُحَرَّفَةِ، الْمُحَرَّرَةِ سُنَّةُ رَسُولِهِ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُحْصَاةِ تَرَاجُمُ رُوَاتِهَا فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، فَمِنَ الْعَجَائِبِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَنْتَشِرَ فِي أَهْلِهِ الِابْتِدَاعُ، وَتَتَعَارَضَ فِيهِ الْمَذَاهِبُ وَتَتَعَادَى الْأَشْيَاعُ، مَعَ نَهْيِ كِتَابِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَوَعِيدِهِ الْمُتَفَرِّقِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ النَّارِ، وَمَعَ بَيَانِهِ لِلْمَخْرَجِ مِنْ فِتْنَةِ التَّنَازُعِ، وَمُعَالَجَتِهِ لِأَدْوَاءِ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ. وَلَكِنَّهُمْ حَكَّمُوا الْأَهْوَاءَ حَتَّى فِي الْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ، فَاتَّبَعُوا كَمَا أَنْبَأَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [2: 213].وَمِنْ غُمَّةِ الْجَهْلِ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَشْعُرُونَ بِهَذَا، حَتَّى عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَرْوُونَ حَدِيثَ: «لَتَتْبَعُنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «مَنْ؟». رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ: «شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا». فَهُمْ يَقُولُونَ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي أَسْبَابِ هَذَا الِابْتِدَاعِ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ فِي أَقْوَالِ مَنْ بَحَثَ فِيهَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحَافِظِ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ رَأْسَ الْبَلِيَّةِ فِي هَذَا الِابْتِدَاعِ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَبْتَدِعُ أَوْ يَتْبَعُ مُبْتَدِعًا فِي أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فُرُوعِهِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَدِلُّ عَلَى بِدْعَتِهِ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ مَبَادِئُ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، قُرُونِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا كُلُّهُ بِمَانِعٍ لَهَا إِذْ كَانَ مِنَ الْأَفْرَادِ، لَا مِنْ مَصْدَرِ الْقُوَّةِ وَالنِّظَامِ- الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ- فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ زَالَ الْعِلْمُ أَوْ كَادَ؛ إِذْ لَا عِلْمَ إِلَّا عِلْمُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ صَارَ مَحْصُورًا فِي أَفْرَادٍ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُمُ الْعَوَامُّ وَلَا يَتْبَعُهُمُ الْحُكَّامُ، ثُمَّ فَشَا النِّفَاقُ وَالدِّهَانُ. وَصَارَ طَلَبُ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ حِرْفَةً لِلْكَسَالَى وَالرُّذَّالِ.رَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى يُتْرَكُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: «إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ- إِذَا ظَهَرَ الْإِدْهَانُ فِي خِيَارِكُمْ، وَالْفُحْشُ فِي شِرَارِكُمْ، وَالْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ، وَالْفِقَةُ فِي رُذَّالِكُمْ» أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ وَأَقَرَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ: فَسَادُ الدِّينِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الصَّغِيرِ، اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَصَلَاحُ النَّاسِ إِذَا جَاءَ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ، تَابَعَهُ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ قَالَ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّغَرِ فِي هَذَا صِغَرُ الْقَدْرِ لَا السِّنِّ اهـ.وَصَغِيرُ الْقَدْرِ هُوَ الْمَهِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَضِيلَةِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ مَا يُحْتَرَمُ بِهِ وَيُتَّخَذُ قُدْوَةً، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُسْتَرْزِقَةَ بِطَلَبِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْكَبِيرَ هُوَ الْكَبِيرُ بِعَقْلِهِ وَفَضْلِهِ، لَا بِنَسَبِهِ وَمَالِهِ.حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَقُولُوا عَلَيْهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالرَّأْيُ وَالظَّنُّ لَيْسَ مِنَ الْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [53: 28] وَمَا شُرِعَ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَصٌّ فِيهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَإِدَارِيَّةٍ، لَا فِي أُصُولِ دِينِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَا حُرِّمَ عَلَى عِبَادِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا، فَإِنَّ اللهَ أَكْمَلَ دِينَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ نَقْصًا يُكْمِلُهُ غَيْرُهُ بِظَنِّهِ وَرَأْيِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ وَلَا مُفْتٍ أَنْ يُسْنِدَ رَأْيَهُ الِاجْتِهَادِيَّ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَيَقُولُ: هَذَا حُكْمُ اللهِ وَهَذَا دِينُهُ، بَلْ يَقُولُ: هَذَا مَبْلَغُ اجْتِهَادِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَإِلْهَامِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ.وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ فَإِنَّهُ يَجْتَنِبُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى عِبَادِ اللهِ شَيْئًا، أَوْ يُوجِبَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ نَصٍّ صَرِيحٍ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَجْتَنِبُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ هَذَا مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ النُّصُوصِ، وَمَا أَكْثَرَ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذَا الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذَا حَقُّ اللهِ وَحْدَهُ، وَمَنْ تَهَجَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ شَرِيكًا لَهُ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِيهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا لَهُ، وَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ يَتَحَامَوْنَ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ، وَيَتَدَافَعُونَ الْفَتْوَى حَتَّى فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّمَا كَانَ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ يَقْصِدُونَ بِالتَّوَسُّعِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ فَتْحَ أَبْوَابِ الْفَهْمِ لَا التَّشْرِيعِ الَّذِي أُلْصِقَ بِهِمْ، حَتَّى إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ أَكْرَهُ كَذَا- مِنْ بَابِ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ- جَعَلَ أَتْبَاعُهُ مِنْ بَعْدِهِ قَوْلَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَعَلُوا بَعْضَهَا لِلتَّحْرِيمِ، وَفَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا خِطَابُ اللهِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ اقْتِضَاءً جَازِمًا وَبَعْضَهَا لِلتَّنْزِيهِ، وَجَعَلُوا الِاقْتِضَاءَ فِيهَا غَيْرَ جَازِمٍ وَعَلَى ذَلِكَ فَقِسْ. وَلِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقِيَمِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ فِي كِتَابِهِ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ هَذَا نَصُّهُ:وَأَمَّا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا، وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً، وَلَيْسَتْ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ، وَمَحْرَّمٌ تَحْرِيمُهُ عَارِضٌ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ اللهِ وَأَشَدُّهَا إِثْمًا، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللهِ وَنِسْبَتَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَغْيِيرَ دِينِهِ وَتَبْدِيلَهُ، وَنَفْيَ مَا أَثْبَتَهُ وَإِثْبَاتَ مَا نَفَاهُ، وَتَحْقِيقَ مَا أَبْطَلَهُ وَإِبْطَالَ مَا أَحَقَّهُ، وَعَدَاوَةَ مَنْ وَالَاهُ وَمُوَالَاةَ مَنْ عَادَاهُ. وَحُبَّ مَا أَبْغَضَهُ وَبُغْضَ مَا أَحَبَّهُ. وَوَصْفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ إِثْمًا، وَهُوَ أَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَعَلَيْهِ أُسِّسَتِ الْبِدَعُ وَالضَّلَالَاتُ. فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ.وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَهَا، وَصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَحَذَّرُوا فِتْنَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا فِي مِثْلِهِ فِي إِنْكَارِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، إِذْ مَضَرَّةُ الْبِدَعِ وَهَدْمُهَا لِلدِّينِ وَمُنَافَاتُهَا لَهُ أَشَدُّ. وَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إِلَى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أَوْ تَحْرِيمَهُ مِنْ عِنْدِهِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ فَقَالَ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} [16: 116] الْآيَةَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَسَبَ إِلَى أَوْصَافِهِ مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أَوْ نَفَى عَنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ أَحَلَّ اللهُ كَذَا وَحَرَّمَ اللهُ كَذَا، فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أُحَرِّمْ هَذَا. يَعْنِي: التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.وَأَصْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ هُوَ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللهِ، يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتِهِ، كَمَا تَكُونُ الْوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ. فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، دُونَ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ وَالِابْتِدَاعَ فِي دِينِ اللهِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبًا لِدُخُولِ النَّارِ، وَاتِّخَاذِ مَنْزِلَةٍ مِنْهَا مُبَوَّأَةٍ، وَهُوَ الْمَنْزِلُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ كَصَرِيحِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا انْضَافَ إِلَى الرَّسُولِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُرْسِلِ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ صَرِيحٍ: افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَيْهِ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} فَذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذَا الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْبِدَعِ، وَأَنَّى بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، أَوْ يَظُنُّهَا سُنَّةً، فَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهَا، وَيَحُضُّ عَلَيْهَا؟ فَلَا تَنْكَشِفُ لِهَذَا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهَا، إِلَّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَكَثْرَةِ إِطْلَاعِهِ عَلَيْهَا وَدَوَامِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهَا، وَلَا تَرَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّ السُّنَّةَ بِالذَّاتِ تَمْحَقُ الْبِدْعَةَ وَلَا تَقُومُ لَهَا، وَإِذَا طَلَعَتْ شَمْسُهَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ قَطَعَتْ مِنْ قَلْبِهِ ضَبَابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وَأَزَالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلَالَةٍ، إِذْ لَا سُلْطَانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطَانِ الشَّمْسِ. وَلَا يَرَى الْعَبْدُ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، وَيُعِينُهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ظُلْمَتِهَا إِلَى نُورِ السُّنَّةِ، إِلَّا تَجْرِيدُ الْمُتَابَعَةِ، وَالْهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى اللهِ، بِالِاسْتِعَانَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَصِدْقِ اللَّجْإِ إِلَى اللهِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِهِ بِالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَهَدْيِهِ وَسُنَّتِهِ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَظُّهُ وَنَصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. اهـ.
.التفسير المأثور: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} قال: ما ظهر العرية وما بطن الزنا، كانوا يطوفون بالبيت عراة.وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن».وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أَغْيَرُ مِنْ سعد، والله أغْيَرُ مني، ومن أجله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله».وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله أما تغار؟ قال «والله إني لأغار، والله أغْيَرُ مني، ومن غيرته نهى عن الفواحش».وأخرج أبو الشيخ عن الحسن {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} قال: ما ظهر منها الاغتسال بغير سترة.وأخرج عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير أن رجلًا قال: يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ. فجلده ثم صعد المنبر والغضب يعرف في وجهه، فقال: «أيها الناس إن الله حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فمن أصاب منها شيئًا فليستتر بستر الله، فإنه من يرفع إلينا من ذلك شيئًا نقمة عليه».وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني غيور، وإن إبراهيم كان غيورًا، وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب».وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {والإِثم} قال: المعصية والبغي. قال: إن تبغى على الناس بغير حق. اهـ.
|